مرحباً بكم على مدوّنة ((الغريب الأثري)) تابعوا معنا آخر المقالات والمواضيع. نتمنى لكم متابعة ممتعة ومفيدة..

الثلاثاء، 13 أغسطس 2013

:: الجامع المختصر في سيرة سيّد البشر ::




الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أمّا بعد:


فليس يخفى على طالب العلم أهمّية دراسة السيرة النّبوية الشريفة وضرورة العناية بها، لأجل ذلك حرص كثير من علماء الإسلام على جمع كلّ ما يخصّ سيرته صلى الله عليه وسلّم فكتبوا في ذلك الكتب وألّفوا المؤلفات، ثمّ إنّ منهم من اقتصر على جانب فقط من جوانب سيرته صلى الله عليه وسلّم العطرة كالمغازي وغيرها ومنهم من عمّم ليشمل تأليفه جميع جوانب حياته صلى الله عليه وسلّم وحياة أصحابه والبيئة التي نشأ فيها وحال العرب قبل البعثة وبعدها. ثمّ إنّ منهم من أطال ومنهم من اختصر وفي كلّ خير إن شاء الله تعالى.

ولقد منّ الله عليّ بقراءة بعض كتب السيرة النّبوية الشريفة المختصرة ومن تلكم الكتب كتابُ: ((مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلّم)) للإمام عبد الله بن الإمام المجدّد شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب النّجدي التميمي رحمهم الله تعالى. ولإعجابي بالكتاب وأسلوب كاتبه وسلاسة ألفاظه وبعدها عن التعقيد واعتماد صاحبه –في الغالب- على الصحيح من سيرته صلى الله عليه وسلّم دون الضعيف والواهي والمنكر، عزمتُ على اختصار الكتاب في صفحات معدودات وحرصتُ على انتقاء الأهمّ من سيرته صلى الله عليه وسلّم ممّا لا يسعُ طالب علم جهلهُ وحتى تسهل مطالعته ومراجعته بين الحين والآخر. أسأل الله تعالى أن ينفعني الله بهذا العمل وينفع غيري به وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً.

تنبيه: غالب عبارات هذا المختصر هي للمؤلّف رحمه الله تعالى وإنّما قمتُ ببعض التعديلات الطفيفة من تقديم وتأخير وزيادة وحذف لبعض الجمل والكلمات. 


روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت منه)) .
وروى مسلم في صحيحه عن وائلة بن الأسقع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)). فنسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم خير نسب.

وأما أبوه فهو عبد الله بن عبد المطلب ، وأكثر العلماء يقولون إنه توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلّم حمل، وقيل إنه مات ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شهران، وجميع ما خلفه عبد الله خمسة أجمال وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن، وهي حاضنته.
وأمه عليه السلام آمنة بنت وهب.
ولد عليه السلام يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الأول، وقيل لعشر، وقيل لاثنتي عشرة. ولم يولد لأبيه وأمه غيره صلى الله عليه وسلم فيما ذكر. وأرضعته صلى الله عليه وسلم ثويبة عتيقة أبي لهب، أعتقها حين بشرته بولادته صلى الله عليه وسلم. وأرضعت أيضا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن ابنها مسروح حمزة عم رسول الله، وأبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي. ثم أرضعته صلى الله عليه وسلم حليمة السعدية.

وفي السنة الرابعة من مولده ذكر أن الملكين شقا بطنه واستخرجا قلبه وشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء ثم غسلا قلبه وبطنه بالثلج، وقد روي أنه ختم بخاتم النبوة بين كتفيه، وأنه يشم منه مسكا، وأنه مثل زر الحجلة، ذكره البخاري.

ماتت أمه عليه السلام ولم يستكمل إذ ذاك سبع سنين، فقدمت به أم أيمن إلى مكة بعد موتها، فكفله جده عبد المطلب واسمه شيبة، وتوفي جده عبد المطلب في السنة الثامنة من مولده، وأوصى به إلى عمّه أبي طالب فأقام من سنة ثمان من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة العاشرة من النبوة ثلاثا وأربعين سنة يحوطه ويقوم بأمره ويذب عنه ويلطف به.

ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة خرج مع عمه أبي طالب حتى بلغ بصرى فرآه بحيرا الراهب واسمه جرجيس فعرفه بصفته، فقال وهو آخذ بيده: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين.

فقال: وما علمك بذلك؟

فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا وخر ساجدا، ولا تسجد إلا لنبي. وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا. وسأل أبا طالب أن يرده خوفا عليه من اليهود. الحديث رواه ابن أبي شيبة، وفيه أنه أقبل عليه الصلاة والسلام وعليه غمامة تظله.

ثم خرج مرة أخرى، ومعه ميسرة غلام خديجة في تجارة لها، حتى بلغ سوق بصرى وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، ثمّ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بعد ذلك، وكان لها حين تزويجها برسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر أربعون سنة، فولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنين وبنات، وكل أولاده من خديجة، حاشا إبراهيم فإنه من مارية القبطية.
وخديجة أول امرأة تزوجها، وأول امرأة ماتت من نسائه ولم ينكح عليها غيرها، وأمره جبريل أن يقرأ عليها السلام من ربها.

أمّا أبناؤه فهم كالتالي:
· الذكور: 
1. القاسم وبه كان يكنى وهو أكبر ولده عاش أياما يسيرة، ولد قبل النبوة.
2. عبد الله.
3. الطيب.
4. الطاهر.
5. ابراهيم ولد بالمدينة وعاش عامين غير شهرين ومات قبل موته عليه السلام بثلاثة أشهر يوم كسوف. وكان له ابنان آخران اختلف في اسمهما.

· الإناث: 
1. زينب تزوجها أبو العاص بن الربيع، وكانت خديجة خالته. ومات أبو العاص في خلافة عمر وولدت له عليا مات مراهقا، وأمامة تزوجها علي رضي الله عنه بعد فاطمة ولم تلد له.
2. رقية وتزجها عثمان بن عفان رضي الله عنه ولم يكن لها زوج غيره، فولدت له ابنا مات وله أربع سنين، ثم ماتت رقية بعد بدر بنحو ثلاثة أيام.
3. فاطمة تزوجها علي بن أبي طالب، فولدت له الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وابنا مات صغيرا اسمه المحسن رضي الله عنه، فتزوج زينب عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فولدت له علي بن عبد الله له عقب. وتزوج أم كلثوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وماتت فاطمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر.
4. أم كلثوم وهي أصغر بناته كانت مملكة بعتبة بن أبي لهب فلم يدخل بها وطلقها، فتزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه فماتت عنده في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تلد له. 


ثم أبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم الأوثان ودين قومه فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك. وحبب إليه الخلوة والتعبد لربه فكان يخلو بغار حراء يتعبد فيه.

ولما بلغ رسول الله خمسا وثلاثين سنة قامت قريش في بناء الكعبة وكان حينها يلقّب بالأمين لصدقه وأمانته وحسن أخلاقه.

ولما بنت قريش الكعبة ورفعت سمكها وانتهوا إلى موضع الحجر تنازعوا أيهم يضعه ثمّ اتفقوا على أن يرتضوا بأول من يطلع عليهم من باب بني شيبة.

فكان أول من ظهر لأبصارهم النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الباب، فحكموه فيما تنازعوا فيه، وانقادوا لقضائه، فبسط ما كان عليه من رداء وقيل كساء وأخذ صلى الله عليه وسلم الحجر فوضعه في وسطه، ثم قال لأربعة رجال من قريش وأهل الرياسة فيهم والزعماء منهم: ليأخذ كل واحد منكم بجنبة من جنبات هذا الرداء، فشالوه حتى ارتفع من الأرض وأدنوه من موضعه.

ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله رحمة للعالمين، وكافة للناس أجمعين.

ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهدن ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده حتى دخل على خديجة فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع.

ثم قال لخديجة: أي خديجة مالي؟ فأخبرها الخبر.

لقد خشيت على نفسي. فقالت له خديجة: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد وهو ابن عمها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: أي عم اسمع من ابن أخيك.

فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الأكبر الذي أنزل على موسى. يا ليتني فيها جزع ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. قال رسول الله: أو مخرجي هم؟

قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي. وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.

ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا.

ثمّ بينا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمشي ذات يوم إذ سمع صوتا من السماء، فرفع بصره فإذا الملك الذي جاءه بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعب منه، فرجع إلى أهله فقال: زملوني زملوني، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} فحمي الوحي وتتابع.

ولما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله استجاب له عباد الله من كل قبيلة، فكان أول من آمن بالله ورسوله خديجة صديقة النساء، ووازرته على أمره، فخفف الله بذلك عن رسوله، فكان لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عليه وتهون عليه أمر الناس، حتى ماتت رضي الله عنها.

ثم أسلم أبو بكر، واسمه عبد الله بن أبي قحافة واسم أبي قحافة عثمان. وهو أول من أسلم من الرجال، وقيل إن عليا أول من أسلم بعد خديجة صبي، وكان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل أول رجل أسلم ورقة بن نوفل. فلما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه ودعا معه إلى الله. فأسلم بدعائه عثمان بن عفان ، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله.

وبادر إلى الإسلام زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان غلاما لخديجة فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها، وأول امرأة أسلمت بعد خديجة أم الفضل زوجة العباس، ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدثت به قريش ثم إن الله سبحانه أمر رسوله أن يصدع بما جاءه منه، وأن ينادي الناس بأمره ويدعو إليه بعد ثلاث سنين من الدّعوة في السرّ إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة ونفي الشريك عنه سبحانه.

فلما نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدع به كما أمره الله وذكر آلهة قومه وعابها، أجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون.

وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو طالب ومنعه وقام دونه، لأنه كان من أشراف قريش ومطاعيهم. ولقي من الصحابة -من لم يكن له عشيرة تحميه- من العذاب أمرا عظيما.

ثمّ افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين كل صلاة، ثم إن الله أتمها فيما بعد في الحضر أربعا وأقرت في السفر على فرضها ركعتين. وقيل: إن الفرض كانت صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا أصحابه إذا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قوهم.

ثمّ لما أنزل الله {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعده، ثم نادى: يا صباحاه. فاجتمع الناس إليه، بين رجل يأتي إليه وبين رجل يبعث رسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟" قالوا: نعم. قال: "فإني نذير لكم بين عذاب شديد" فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}.

فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه واشتد أذى قريش على من آمن، وفتن منهم من فتن.

فلما اشتد البلاء عليهم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة وقال: "إن بها ملكا لا يظلم الناس". وكان أول من هاجر عثمان ابن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله، فخرجوا في جمع من الصحابة متسللين سرا في رجب من السنة الخامسة من المبعث فوفق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين للتجار فحملوهم فيها إلى أرض الحبشة. فأقاموا بالحبشة شعبان ورمضان. ثم رجعوا إلى مكة في شوال لما بلغهم أن قريشا صافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفوا عنه.

ولما استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على سب آلهتهم عادوا إلى شر ما كانوا عليه، وازدادوا شدة على من أسلم. فلما قرب مهاجرة الحبشة من مكة وبلغهم أمرهم توقفوا عن الدخول، ثم دخل كل رجل في جوار رجل من قريش، ثم اشتد عليهم البلاء والعذاب من قريش وسطت بهم عشائرهم، وصعب عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى الحبشة مرة ثانية فخرجوا، فكان خروجهم الثاني أشق عليهم وأصعب، فكان عدة من خرج في هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلا إن كان فيهم عمار بن ياسر ومن النساء تسع عشرة امرأة.

فأقاموا عند النجاشي على أحسن حال وبلغ ذلك قريشا.

فلما كان في ربيع الأول من سنة سبع من الهجرة كتب رسول الله كتابا إلى النجاشي -واسمه أصحمة بن الحر- يدعوه إلى الإسلام. فلما قرئ عليه الكتاب أسلم وقال: لو قدرت أن آتيه لأتيته. وكتب إليه أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت ممن هاجر إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش فتنصر هناك ومات، فزوجه إياها، وأصدقها عنه أربعمائة دينار. وكتب إليه أن يبعث إليه من بقي من أصحابه ويحملهم ففعل، وحملهم في سفينتين مع عمرو بن أمية، وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر.

وفي سنة تسع من الهجرة مات النجاشي رحمه الله ونعاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورفع إليه سريره بأرض الحبشة حتى رآه بالمدينة وصلى عليه. 


نعود إلى مكّة وما جرى فيها من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع قومه:


فلما رأت قريش أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزايد ويقوى، مشوا إلى أبي طالب وهددوه بفراقه وعدائه إن لم ينه ابن أخيه عن سبّ آلهتهم وتسفيه أحلامهم وعيب آبائهم، فأبى عليهم أبو طالب ذلك المرّة تلو المرّة لمّا رأى ثبات ويقين رسول الله صلى الله عليه وسلّم. حتى بلغ بهم الأمر أن عرضوا عليه فتى من خيرة فتيانهم يقال له: عمارة بن الوليد وقالوا له: يا أبا طالب هذا أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل كرجل.

فقال أبو طالب: والله لبئس ما تسومونني، تعطونني ابنكم أغذيه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا ما لا يكون أبدا.

ثمّ قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني عبد المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه، إلا ما كان من أبي لهب وولده فإنهم ظاهروا قريشا على قومهم.

فلما رأت قريش ذلك اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا على بني هاشم وبني عبد المطلب ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوا منهم شيئا ولا يبتاعوا منهم ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه سلم للقتل.

فانحاز بنو هاشم وبنو عبد المطلب مسلمهم وكافرهم إلى أبي طالب فدخلوا معه شعبه، فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا، حتى جهدوا وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا، وقطعت قريش عنهم الأسواق حتى كان يسمع أصوات نسائهم وأبنائهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع، واشتدوا على من أسلم ممن لم يدخل الشعب، وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا.

ثمّ إنّ نفراً من أشراف قريش تعاهدوا على نقض الصحيفة لما رأو ما حلّ ببني هاشم من الهلاك، فقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها فوجد الحشرات قد أكلتها، إلا باسمك اللهم وما كان فيها من اسم الله فإنها لم تأكله. وخرج بنو هاشم من شعبهم وخالطوا الناس. وذلك بعد عشرة أعوام من المبعث، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام.

وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي ذلك العام "عام الحزن"، ثم بعد أيام من موت خديجة تزوج عليه السلام سودة بنت زمعة.

فلما مات أبو طالب اشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه وتجرءوا عليه وكاشفوه وأصحابه بالأذى، وأرادوا قتله، فمنعهم الله من ذلك. 


ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم واصل دعوة قومه إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك ودعاء غير الله تعالى، دعاهم صلى الله عليه وسلّم إلى إخلاص العبادة لله وحده وطرح ما كان يعبد آباؤهم الأولين. ولكنّ قومه أصروّا على عنادهم وأجمعوا على مخالفته ومنابذته فقالوا إنّما هو مجنون وقال بعضهم بل هو كاهن، وقال آخرون بل هو ساحر، أو شاعر وغيرها من النقائص التي وصموه بها بأبي هو وأمّي.


ثمّ خرج صلى الله عليه وسلّم إلى الطائف، ورجا أن يؤووه وينصروه على قومه، ويمنعوه منهم. ودعاهم إلى الله، فلم ير من يؤوي ولم ير ناصرا، ونالوه مع ذلك بأشد الأذى ونالوا منه ما لم ينل قومه. وكان معه زيد بن حارثة مولاه، فأقام بينهم عشرة أيام لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم. ورجموا عراقيبه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء. وكان إذا أذلقته الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذونه بعضديه ويقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى لقد شج في رأسه شجاجا، فانصرف راجعا من الطائف إلى مكة محزونا.

وفي الطريق أرسل إليه ربه ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة، وهما الجبلان اللذان هي بينهما، فقال ((بل أستأني بهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا)).

وفي مرجعه نزل بنخلة وقام يصلي في جوف الليل، فصرف الله إليه نفرا من الجن فاستمعوا قراءته، ولم يشعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فرغ من الصلاة ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا به وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله خبرهم عليه فقال تعالى ((وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ)) الآيات.

ثم انتهى إلى مكة، فأرسل رجلا من خزاعة إلى المطعم بن عدي: أدخل في جوارك؟ فقال: نعم. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة، حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فانتهى رسول الله إلى الركن فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته والمطعم ابن عدي وولده محدقون بالسلاح حتى دخل بيته. 




ثم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه وبجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس راكبا على البراق صحبة جبريل عليهما السلام، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماما، وربط البراق بحلقة باب المسجد.

ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح لهما، فرأى هناك آدم أبا البشر فسلم عليه، فرحب به ورد عليه السلام وأقر بنبوته. وأراه الله أرواح السعداء عن يمينه، وأرواح الأشقياء عن شماله.

ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح له فرأى فيها يحي ابن زكريا وعيسى بن مريم، فلقيهما وسلم عليهما، فردا عليه السلام ورحبا به وأقرا بنبوته.

ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف الصديق، فسلم ورحب به.

ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه ورحب به.

ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فلقي فيها هارون بن عمران، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته.

ثم عرج به إلى السماء السادسة، فلقي فيها موسى، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته.

فلما جاوزه بكى، فقيل ما يبكيك؟ قال: إن غلاما بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما دخلها من أمتي. ثم عرج به إلى السماء السابعة، فلقي إبراهيم، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته.

ثم رفع إلى سدرة المنتهى. ثم رفع له البيت المعمور. ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة. فرجع حتى مر على موسى فقال: بم أمرت ؟ قال: بخمسين صلاة فقال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل كأن يستشيره في ذلك، فأشار أن نعم إن شئت. فعلا جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى. فلم يزل يتردد بين موسى وبين ربه تعالى حتى جعلها خمسا. فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضى وأسلم. فلما نفذ نادى مناد: قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي. 

فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه أخبرهم بما أراه الله من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أسري بي الليلة. قالوا: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس؟ قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم. فقال المطعم بن عدي: نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا ومنحدرا شهرا، تزعم أنك أتيته في ليلة! واللات والعزى لا أصدقك. فقال أبو بكر: يا مطعم بئس ما قلت لابن أخيك، جبهته وكذبته. أنا أشهد أنه صادق.
فقالوا: يا محمد، صف لنا بيت المقدس ؟ وفي القوم من سافر إليه. فذهب ينعت لهم: بناؤه كذا. هيئته كذا. وقربه من الجبل كذا. فما زال ينعت لهم حتى التبس عليه النعت، فكرب كربا ما كرب مثله، فجيء بالمسجد حتى وضع دون دار عقيل أو عقال. فقالوا: فكم للمسجد من باب؟ ولم يكن عدها. فجعل ينظر إليه ويعدها بابا بابا ويعلمهم، وأبو بكر يقول: صدقت، أشهد أنك رسول الله.

فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب.

فقالوا لأبي بكر: فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح ؟

قال: نعم إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة وروحة. فبذلك سمي أبو بكر "الصديق".

ثم قالوا: يا محمد، أخبرنا عن عيرنا. فأخبرهم عنها في مسراه ورجوعه،وأخبرهم عن وقت قدومها، وعن البعير الذي يقدمها. وكان الأمر كما قال. فرموه بالسحر وقالوا: صدق الوليد.ولم يزدهم ذلك إلا ثبورا، وأبى الظالمون إلا كفورا. 

فلما أراد الله سبحانه إظهار دينه وإعزاز نبيه وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموسم، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن فقال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله أنه للنبي الذي توعدكم به اليهود، فلا يسبقنكم إليه. -وقد كان يهود المدينة إذا كان بينهم وبين غيرهم من سكّان المدينة شيء قالوا لهم: إنّ نبيا مبعوثا الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم- فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى الله أن يجمعهم بك، فسنقدم عليهم وندعوهم ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا.

فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا رسول الله، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تبق من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر، فلقوه بالعقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفرض عليهم الحرب.

قال عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي بهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف، والسمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وأثرة علينا. وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحق حيث كنا لا نخاف في الله لومة لائم. قال عليه الصلاة والسلام: ((فإن وفيتم فلكم الجنة، ومن غشي من ذلك شيئا كان أمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه)).

ثم انصرف الأنصار إلى المدينة فأظهر الله الإسلام. وكتب الأوس والخزرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم ابعث إلينا من يقرئنا القرآن، فبعث إليهم مصعب بن عمير وعمرو بن أبي مكتوم الأعمى، فصار مصعب يصلي بهم الجمعة فأسلم على يديه خلق كثير من الأنصار.

ثم رجع مصعب إلى مكة في العام المقبل، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في ذي الحجة أوسط أيام التشريق منهم سبعون رجلا يزيدون رجلا أو رجلين وامرأتان، ، وهي العقبة الثالثة.

فلما كانت ليلة العقبة الثلث الأول من الليل تسلل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان.

فاجتمعوا في الشعب ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاءهم ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه فقال العبّاس: إن محمدا منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا، وهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم.

ثم قال صلى الله عليه وسلّم: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.

فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرجوا لي منكم اثني عشر نقيبا حتى يكونوا على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا: تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس.

فلما قدموا المدينة أظهروا الإسلام بها،فلما أذن الله ورسوله في الحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار،فخرجوا أرسالا، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة.

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة. 

فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم وساقوا الذراري والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج فعرفوا أن الدار دار منعة، وأن القوم أهل حلقة وبأس وشوكة، فخافوا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ولحوقه بهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا في دار الندوة، ولم يتخلف أحد من ذوي الرأي والحجا منهم ليتشاوروا في أمره.

فأشار عليهم أبو جهل أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فيهم، ثم يُعطى كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فيستريحوا منه. فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منهم بالعقل منه فعقلوه لهم. فقال إبليس اللعين وقد تمثّل لهم في صورة شيخ جليل: القول ما قال الرجل، هذا الرأي لا رأي غيره. فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له، فنجّاه الله تعالى من كيدهم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم بين أيديهم وقد أعمى الله أبصارهم ووضع على رؤوسهم التراب تحقيراً لهم.

وأذن الله لرسوله عند ذلك في الهجرة إلى المدينة وكان خروجه عليه الصلاة والسلام بعد العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منهاوأخبر عليا بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر إلى الليل، ثم لحقا بغار ثور في جبل ثور.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تلك الليلة على أطراف قدميه كي يخفي أثره حتى حفيت قدماه، فحمله أبو بكر وهو يشتد به حتى أتى به الغار، فأنزله وقال: يا رسول الله دعني أدخل قبلك، فإن كان فيه حية أو شيء كان بي دونك.فقال: ادخل، فدخل أبو بكر وجعل يلتمس بيده، وكلما رأى جحرا قال بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع، قال فبقي جحر فوضع عقبه خشية أن يخرج على النبي صلى الله عليه وسلم منه شيء يؤذيه، وكان فيه حيات وأفاع، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أين ثوبك يا أبا بكر، فأخبره بالذي صنع، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة. فأوحى الله إليه: إن الله قد استجاب لك.

فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام ثقف لقف، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش كبائت، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام،

وجدت قريش في طلبهما وخرجوا يقتصون أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأخذوا معهم القافة حتى وصلوا إلى الغار, فقال أبو بكر: نظرت إلى أقدام المشركين فوق رأسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا. فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا، يعني بالمعونة والنصر.

قال أبو بكر: فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك المدلجي على فرس له، فدعا عليه رسول الله فارتطمت به فرسه إلى بطنها. فقال: إني أراكما قد دعوتما علي، فادعوا الله لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا، فجعل لا يلقى أحدا إلا قال: قد كفيتم، ما ههنا. ولا يلقي أحدا إلا رده. فكان أول النهار جاهدا عليهما، وآخره حارسا لهما.

ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن معه فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة هزيلة ليس فيها لبن فمسح ضرعها وذكر اسم الله وقال: اللهم بارك لها في شاتها، فتفاجت فدرت واجترت. فشربوا جميعاً. ثم إن أم معبد هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمت.

ولقي النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء الطريق الزبير بن العوام في ركب من المسلمين قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا. 

فلمّا وصل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة استقبله المسلمون استقبالا حسنا وكبر المسلمون فرحا بقدومه وسمعت الوجبة والتكبير. وخرج المسلمون للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، وأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه، والله مولاه وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير، فسار حتى نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فأقام في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة، وأسس مسجد قباء، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة.

فلما كان يوم الجمعة ركب بأمر الله له، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، ثم ركب ناقته وأرخى زمامها لا يحركها وهي تنظر يمينا وشمالا، فلم تزل ناقته سائرة، ولا يمر بدار من دور الأنصار إلا رغبوه في النزول عليهم ويأخذون بخطام راحلته. فقال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع مسجده اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلا ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول فنزل عنها، وذلك في بني النجار أخواله، وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أن ينزل على أخواله إكراما لهم.

وبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله فأدخله، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المرء مع رحله".

ومن مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة أرخ التاريخ في زمن عمر إلى يومنا هذا.

وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس.

ثمّ ابتاع صلى الله عليه وسلّم مربذاً من غلامين يتيمين بالمدينة ليبني عليه مسجده -وهو مكان بروك ناقته- كانت فيه قبور المشركين وكانت فيه خرب وكان فيه نخل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، ثمّ شرع في بناء المسجد وباشر البناء بنفسه صلى الله عليه وسلّم فجعلت قبلة المسجد إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، وباب يقال له باب الرحمة، والباب الذي يدخل منه عليه السلام. وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن وسقفها بالجريد والجذوع.

فلما فرغ من البناء بنى بعائشة رضي الله عنها في البيت الذي بناه لها شرقي المسجد شارعا إلى المسجد، وهو مكان حجرته اليوم، وجعل لسودة بيتا آخر.

نكح رسول الله صلى الله عليه وسلّم عائشة وهي بنت ست سنين، وبنى بها وهي بنت تسع سنين. وكانت أحبّ النّاس إليه ولم ينكح بكراً غيرها وكانت مدة مقامها معه عليه السلام تسع سنين، ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة. وكانت فقيهة عالمة فصيحة تقيّة نقيّة صدّيقة، كثيرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي زوجه في الدنيا والآخرة وأمّ المؤمنين وشرفهم وإن رغمت أنوف المنافقين من الروافض المشركين.

ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلا: نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام، إلى وقعة بدر. فلما أنزل الله ((وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)) رد التوارث إلى الرحم دون عقدة الأخوة.

فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين، واجتمع أمر الأنصار وألف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم، استحكم أمر الإسلام، فقامت الصلاة وشرع الأذان وفرضت الزكاة والصيام وقامت الحدود وفرض الحلال والحرام. 

فلما رأت العرب واليهود ما صار عليه حال رسول الله مع إخوانه رموهم عن قوس واحدة، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة. وصاحوا بهم من كل جانب. والله يأمرهم بالصبر والعفو والصفح، حتى قويت الشوكة، واشتد الجناح، فأذن لهم حينئذ في القتال ولم يفرض عليهم، فقال تعالى ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)) وهذه أول آية نزلت في الجهاد.

ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقال ((وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ)) ، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة فقال ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)) أي لا يفتن مؤمن عن دينه، ويكون الدين لله أي حتى يعبدوا الله لا يعبدوا معه غيره.
فكان القتال محرما. ثم مأذونا فيه، ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال. ثم مأمورا به لجميع المشركين.
وكان صلى الله عليه وسلم يستحب القتال أول النهار كما يستحب الخروج للسفر أوله، فإذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى نزول الشمس وتهب الرياح وبنزل النصر.

وكان يبايع أصحابه في الحرب على أن لا يفروا، وربما بايعهم على الموت. وبايعهم على الجهاد كما بايعهم على الإسلام،وبايعهم على الهجرة قبل الفتح.

وبايعهم على لتوحيد والتزام طاعة الله ورسوله، وبايع نفرا من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئا، وكان السوط يسقط من يد أحدهم فينزل فيأخذه ولا يقول لأحد ناولني إياه, وكان يشاور أصحابه في الجهاد ولقاء العدو أو تخير المنازل.

ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود من أهل الكتاب إلى الإسلام ورغبهم فيه وحذرهم عذاب الله ونقمته، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وادعهم وكتب بينه وبينهم كتابا، ولكنّ أحبار اليهود ناصبوه العداوة بغيا وحسدا وضغنا لما خص الله به العرب من أخذه رسوله منهم. وكانوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة.
فحاربته الثلاث، فمنّ على بني قينقاع، وأجلى بني النضير، وقتل بني قريظة وسبى ذريتهم ونساءهم. ونزلت سورة الحشر في بني النضير، وسورة الأحزاب في بني قريظة. وقد كان حبرهم وعالمهم وسيدهم وابن سيدهم عبد الله بن سلام ثد بادر فدخل في الإسلام حين وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان من بني قينقاع، وأبى عامة اليهود إلا الكفر والعناد.
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار ثلاثة أقسام: قسم صالحهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه. وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره. ومن هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن.


وكان في الدينة رجل يُدعى عبد الله بن أبي بن سلول من أشرافها وساداتها وكان أهل المدينة قد أجمعوا على تنصيبه ملكاً عليهم، فجاءهم الله برسوله وهو على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا. فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل كارها مصرا على نفاقه وضغنه. 



بداية غزواته:


· ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ للحرب، وقام فيما أمره الله به من جهاد عدوه وقتال من أمره الله به ممن يليه من المشركين، مشركي العرب. فخرج غازيا على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة في صفر، وهي غزوة الأبواء يريد قريشا وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فوادع فيها ضمرة ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا، فأقام بها بقية صفر وصدرا من ربيع الأول. وهي أول غزوة غزاها بنفسه.

· فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبيدة بن الحارث بن المطلب في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقي بها جمعا عظيما من قريش فلم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص قدرمى يومئذ بسهم فكان أول سهم رمي في سبيل الله، وكانت راية عبيدة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام.

· ثمّ صار يبعث عليه الصلاة والسلام بعض أصحابه من المهاجرين في سرايا الواحدة تلو الأخرى ولم يقع منهم قتال.

· ثم غزا غزوة بواط فغزوة العشيرة، وفي كلتا الغزوتين لم يقع قتال.

· فلم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه، حتى بلغ واديا في ناحية بدر ففاته كرز، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق حربا.

· وبعث عليه الصلاة والسلام في رجب المذكور عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة، على رأس ستة عشر شهرا من الهجرة. في اثني عشر رجلا من المهاجرين كل اثنين يعتقبان على بعير، وأمره أن يترصد بها عيرا لقريش ويعلم له من أخبارهم، فمرت عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة، فتشاور المسلمون فيهم وقالوا نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة، دخلوا الحرم. ثم أجمعوا على ملاقاتهم، فقتلوا واحدا من المشركين، وأسروا اثنين. ثم قدموا بالعير والأسيرين.

فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام. فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا. فأسقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين. وأنكرت قريش ذلك، وقالوا: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام. فأنزل الله على رسوله ((يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)) فلما نزل القرآن بذلك فرج الله عن المسلمين، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، ففادت قريش الأسيرين.
فلما كان في شعبان من هذه السنة حولت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة على سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقيل على ثمانية عشر، وقيل على ستة عشر شهرا، ولم يقل أحد أكثر ولا أقل. فبينما كان الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاءهم رجل فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلوها. وكان وجه الناس إلى الشام فاستداروا بوجوههم إلى الكعبة.

وبعدما حولت القبلة بشهر في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من قدومه عليه الصلاة والسلام، نزل فرض شهر رمضان وزكاة الفطر قبل العيد بيومين. وقيل إن صدقة الفطر فرضت قبل الهجرة والله أعلم. 



غزوة بدرالكبرى


وهي أكرم المشاهد، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله ودفع فيه الشرك وأهله وهذا مع قلة عدد المسلمين، وكثرة العدو، فأعز الله رسوله، وأظهر وحيه وتنزيله، وبيض وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

وكان خروجهم يوم السبت اثني عشر خلت من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا، وقيل لثمان خلون منه، واستخلف على المدينة أبا لبابة، وخرج معه الأنصار، ولم تكن قبل ذلك خرجت معه، وكانت من غير قصد من المسلمين إليها ولا ميعاد، كما قال تعالى ((وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ)) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه خبر العير المقبلة من الشام مع أبي سفيان فيها أموال عظيمة لقريش، فندب أصحابه إليهم، وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدو.

فلما بلغ أبا سفيان مسيره عليه الصلاة والسلام استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري أن يأتي قريشا بمكة فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا قد اعترض لعيرهم في أصحابه، فنهضوا مسرعين في قريب من ألف مقاتل، ومعهم مائة فرس وسبعمائة بعير، ولم يتخلف أحد من أشرافهم، إلا أبا لهب وبعث مكانه العاص بن هشام ابن المغيرة كان له دين بذلك. وحشدوا فيمن حولهم من العرب، ولم يتخلف من بطون قريش سوى عدي بن كعب. فخرجوا سراعا وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه من أصحابه، واستعمل على الصلاة بالناس عمرو بن أم مكتوم، ثم رد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير وكان أبيضا، وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان إحداهما مع علي بن أبي طالب والأخرى مع رجل من الأنصار، قيل وكانتا سوداوين.

ثمّ أتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس، وإنما يريد الأنصار.

فقال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. فقال له: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله. فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك.ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم.

وخفض أبو سفيان فلحق بساحل البحر، ولما رأى أنه قد نجا وأحرز العير كتب إلى قريش أن ارجعوا فإنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم. فأتاهم الخبر وهم بالجحفة فهموا بالرجوع، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نقدم بدرا فنقيم به، ونطعم من حضرنا من العرب، وتخافنا العرب بعد ذلك. فرجع بعضهم وبقي أكثرهم.
ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع الوقعة فعرض على أصحابه مصارع رؤوس الكفر من قريش مصرعا مصرعا يقول: "هذا مصرع فلان إن شاء الله، هذا مصرع فلان إن شاء الله" .

فلما أقبلت قريش ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تجادلك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم أحنهم الغداة".

وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جذم شجرة هناك، وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة، فلما أصبحوا أقبلت قريش في كتائبها واصطف الفريقان.

وخرج عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة حتى نصلوا من الصف، فخرج إليهم فتية من الأنصار فقال المشركون: مالنا بكم حاجة. ثم نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عببيدة بن الحارث وقم يا حمزة وقم يا علي، فلما قاموا ودنوا منهم قالوا: أنتم أكفاء كرام.

فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم بمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه، فكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه، واحتملا صاحبهما فجراه إلى أصحابه فمات بالصفراء.

وتزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم، ويقول فيما يقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد" فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله قد ألححت على ربك وهو يثب في الدرع فخرج وهو يقول ((سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)).

وأنزل الله تعالى ((إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)) فأمده الله بالملائكة.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصى فاستقبل بها قريشا ثم قال: شاهت الوجوه. ثم نفحهم بها، وأمر أصحابه فقال: شدوا. فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين. فكانت الهزيمة، فقتل الله فيها من قتل من صناديد قريش وأسر من أسر من أشرافهم وكان منهم العبّاس بن عبد المطلّب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

وقد كان الشيطان مع المشركين لا يفارقهم وكانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك لا ينكرونه، حتى إذا التقى الجمعان فر عدو الله ونكص على عقبيه فذهب فأوردهم ثم أسلمهم حين رأى الله أيد رسوله والمؤمنين بالملائكة وقال: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} الآية

ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قلاب بدر فطرحوا فيه، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلان ابن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟
فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم".

ثمّ اختلف الصحابة في الأسرى -وكانوا سبعين - لم يكن من المؤمنين أحد إلا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسول الله بقتل الأسرى، وسعد بن معاذ قال: الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال. فأنزل الله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الآيات. فقال رسول الله: لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ.

فكان صلى الله عليه وسلم يفاديهم على قدر أموالهم، وكان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهو فداؤه.

وكان فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر في عقب رمضان وأوائل شوال. وفي أول شوال صلى صلاة الفطر.

وفي أوائل شوال، وقيل بعد بدر بسبعة أيام، وقيل في نصف المحرم سنة ثلاث، خرج عليه الصلاة والسلام يريد بني سليم، فبلغ ماء يقال له قرقرة الكدر، فأقام ثلاث ليال وقيل عشرا فلم يلق حربا.
ثمّ كانت غزوة السويق في نفس السنة ولم يلق فيها حربا.

وفي ذي الحجة من هذه السنة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد وأمر بالأضحية.

ثمّ توالت الغزوات على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكانت غزوة غطفان فغزوة بحران فغزوة بني قينقاع وكان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب جلست إلى صائغ يهودي، فراودها على كشف وجهها فأبت، فعمد إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشقت سوأتها فصاحت، فضحكوا منها. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله. فشدت اليهود على المسلم فقتلوه. ووقع الشر بين المسلمين وبين بني قينقاع، فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فحاصرهم أشد الحصار خمس عشرة ليلة. فقذف الله في قلوبهم الرعب فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنّ له أموالهم وأنّ لهم النساء والذرية. فأمر عليه السلام المنذر بن قدامة بتكتيفهم، وكلم عبد الله بن أبي بن سلول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وألح عليه من أجلهم فقال: خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم. وأمر أن يجلوا من المدينة وتركهم من القتل. وخمست أموالهم، فكان أول ما خمس بعد بدر.

ثمّ وقعت سريّة كعب بن الأشرف وكان من خبرها أنّ كعباً هذا لمّا بلغه خبر قتل سادات قريش في بدر صار يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمين ويمدح عدوهم ويحرضهم عليه، فلم يرض بذلك حتى ركب إلى قريش فاستعواهم على رسول الله، فقال له أبو سفيان والمشركون: أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأي دينينا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق؟ فقال: أنتم أهدى منهم سبيلا وأفضل.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لنا بابن الأشرف، فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا، وقد خرج إلى قريش فأجمعهم على قتالنا، وقد أخبرني الله بذلك، ثم قدم أخبث ما كان. ينتظر قريشا تقدم عليه فيقاتلنا". ثم قرأ على المسلمين ما أنزل الله فيه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} الآية.

فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: "نعم".

فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ قال: إنما هو محمد ابن مسلمة، وأخي ورضيعي أبو نائلة. قالت: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم. فقال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة. إن الكريم لو دعي إلى طعنة أجاب.

فقتلوه وجاءوا برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورموه بين يديه. فحمد الله على قتله. 


غزوة أحد:


ثمّ كانت غزوة أحد، وهو جبل مشهور بالمدينة على أقل من فرسخ منها، وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: "أحد جبل يحبنا ونحبه" ، وملخّص هذه الغزوة أنّ قريشا لما رجعوا من بدر إلى مكة وقد أصيب أصحاب القليب. ورجع أبو سفيان بعيره. عزموا على جمع الأموال لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ولما اجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب العباس بن عبد المطلب كتابا يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم، وسار بهم أبو سفيان حتى نزل بهم بطن الوادي من قبل أحد مقابل المدينة، وكانوا قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء الأحابيش، وجاءوا معهم بنسائهم لئلا يفروا، وكان ذلك في شوال من السنة الثالثة.

فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا أخبر أصحابه فأشاروا عليه بالخروج لملاقات أعداء الله تعالى، فصلى عليه الصلاة والسلام بالناس الجمعة ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبر أن لهم النصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم. ففرح الناس بذلك.

وكان المسلمون ألف رجل ويقال تسعمائة والمشركون ثلاثة آلاف، ونزل عليه السلام بأحد ورجع عنه عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر فيمن تبعه من قومه وقال: يخالفني ويسمع من غيري –وقد كان أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعدم الخروج إلى المشركين والبقاء في المدينة-، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر يوبخهم ويحرضهم على الرجوع ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فرجع عنهم وسبهم.

ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم، فلما أصبح يوم السبت تعبأ للقتال وهو في سبعمائة فيهم خمسون فارسا، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير وقال: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم".

فاقتتل الناس حتى حميت الحرب، وكان شعار المسلمين: أمت أمت. وأبلى أبو دجانة وطلحة بن عبيد الله وأسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب والنضر بن أنس وسعد بن الربيع. وكانت الدولة أول النهار للمسلمين فمسوهم بالسيوف، فانهزم عدو الله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم.

فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم نظرخالد بن الوليد ومن معه إلى خلاء الجبل وقلة أهله فكر بالخيل، وتبعه عكرمة بن أبي جهل فحملوا على من بقي من النفر الرماة فقتلوهم وأميرهم عبد الله بن جبير. فصرفت وجوه المسلمين فأقبلوا منهزمين.

وقد كان ذلك اليوم يوم بلاء وتمحيص للمسلمين أكرم الله فيه من أكرم بالشهادة، حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، وقاتل كثيرٌ من الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقُتلوا دونه رضي الله عنهم أجمعين. ودق رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحجارة حتى وقع لشقه وأصيبت رباعيته وشج في وجهه وكلمت شفته السفلى، فكان يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" ويمسح الدم ويقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ فأنزل الله تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} الآية.

وانهزم قوم من المسلمين يومئذ فبلغ بعضهم إلى الحلوب دون الأعوص، فغفر ذلك لهم، ونزل القرآن بالعفو عنهم بقوله {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} الآية. واشتغل المشركون ونساؤهم بقتلى المسلمين يمثلون بهم ويقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون. وبقرت هند بنت عتبة عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.

ولما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعل هبل.ثمّ قال: إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها.

ثمّ أنزل الله عليهم النعاس كما أنزله عليهم في غزوة بدر، والنعاس في الحرب والخوف دليل على الأمن وهو من الله. و بعد انصراف قريش فرغ الناس لقتلاهم وأخذوا ينقلون موتاهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يدفنوا في مضاجعهم، وأن لا يغسلوا، وأن يدفنوا كما هم بثيابهم.

وكان ممن استشهد من المسلمين يوم أحد سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، قتله وحشي مولى نوفل، وأعتق لذلك، رماه بحربة فوقعت في ثنيته. ثم إن وحشيا أسلم، وقتل بالحربة بعينها مسيلمة الكذاب يوم اليمامة زمن أبي بكر الصديق. 

وبالجملة فقد أكرم الله سبعين صحابياً بالشهادة يوم أحد وقتل من الكفار اثنان وعشرون رجلا.

فلما كان من الغد يوم الأحد أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطلب للعدو، وعهد رسول الله أن لا يخرج معه أحد إلا من حضر المعركة يوم أحد، فخرج عليه السلام حتى بلغ حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، فمر برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد بن أبي معبد الخزاعي، وكان يومئذ مشركاً، فقال: يامحمد، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك. ثم خرج حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا على الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليستأصلوهم بزعمهم.

فقال معبد لأبي سفيان: إن ّمحمداً قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ماصنعوا. فساء ذلك أبا سفيان ومن معه. ومر ركب من عبد القيس، فقال: أين تريدون. قالوا: نريد المدينة للميرة. فقال لهم أبو سفيان إذا وافيتم محمّداً فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم. فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان. فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل. وذلك قول الله تعالى {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الأية.

فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بها الإثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة يوم الجمعة وقد غاب خمسا وظفر عليه السلام بمخرجه ذلك بمعاوية بن المغيرة ابن أبي العاص جد عبد الملك بن مروان لأمه فأمر بضرب عنقه صبرا. 



وفي صفر على رأس أربعة أشهر من أحد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم المنذر بن عمرو ومعه القرّاء إلى أهل نجد يدعونهم إلى الإسلام ويعلمونهم القرآن بطلب من أبي مالك المعروف بملاعب الأسنة وفي جوار أبي البراء، فساروا حتى إذا نزلوا بئر معونة بعثوا حرام بن ملحان بكتابه صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، فاستصرخ قبائل من سليم ورعلا وذكوان وعصية فأجابوه، ثم خرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم وقاتلوهم حتى قتلوا إلى آخرهم، إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق، فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا. وأسر عمرو بن أمية الضمري، ثمّ أعتقه عامر بن الطفيل.


فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم خبر القرّاء نعاهم فقال: إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم قالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا. فأخبرهم عنهم. وفي الصحيحين عن أنس: " دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوهم ثلاثين صباحا، يدعو على رعل وذكوان وبني لحيان وعصية عصوا الله ورسوله". 


ثمّ وعلى رأس ستة أشهر من وقعة بدر كانت غزوة بني النضير وكان سببها أن عمرو بن أمية الضمري خرج بعدما أعتق إلى المدينة، فصادف في طريقه رجلين من بني عامر معهما عقد وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به عمرو، فقتلهما وظن أنه قد ظفر ببعض ثأر أصحابه، فلما قدم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد قتلت قتيلين لأدينهما.


ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعين بهم في دية ذينك القتلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية للجوار الذي كان عقده لهما، فلما أتاهم عليه السلام يستعينهم قالوا: يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذا الحال. فعزموا على قتله فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فأمر بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم. فحاصرهم، فتحصنوا منه في الحصون، فقطع النخل وحرقها وخرب، فنادوه: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها ؟ فوقع في نفوس بعض المسلمين من هذا الكلام شيء، حتى أنزل الله {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} الآية.

وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله ابن أبي ابن سلول بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم فتربصوا. فقذف الله في قلوبهم الرعب فلم ينصروهم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم عن أرضهم ويكف عن دمائهم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرجوا منها ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة"، فنزلوا على ذلك، وكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم، ثم أجلاهم عن المدينة. وحينئذ نزل تحريم الخمر، فاحتملوا بأهليهم إلى خيبر، ومنهم من صار إلى الشام. وكان ممن صار إلى خيبر أكابرهم كحيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق فدانت لهم خيبر، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين خاصة، إلا أنه عليه السلام أعطى أبا دجانة وسهيل بن حنيف وكانا فقيرين. وفي قصة بني النضير نزلت سورة الحشر، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان يامين بن عمرو وأبو أسيد بن وهب أسلما فأحرزا أموالهما. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال فقسمها بين المهاجرين ليرفع بذلك مؤنتهم عن الأنصار إذ كانوا قد قاسموهم الأموال والديار، ولم يقسم منها لأحد، لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} الآية. وإنما قذف الله في قلوبهم الرعب، وكانت بنو النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث شاء وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله. 


ثمّ كانت غزوة ذات الرقاع:


وسميت ذات "الرقاع" لما روى البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نتعقبه. فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا.

وكان من خبر هذه الغزوة أنه صلى الله عليه وسلم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة بالمثلثة من غطفان، لأنه بلغه أنهم جمعوا الجموع، فخرج في أربعمائة من أصحابه، حتى نزل نخلا، موضع من نجد من أرض غطفان. فلم يجد في محالهم إلا نسوة فأخذهن. وفيها صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف. وكان ذلك أول ما صلاها.

وفي هذه الغزوة نزل رسول الله تحت شجرة ليستظلّ فعلق سيفه بها، فجاء رجل من المشركين فاخترط سيف رسول الله فقال: أتخافني؟ قال: "لا". قال: فمن يمنعك مني؟ قال: "الله". "فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من يمنعك مني؟" قال: كن خير آخذ. قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟" قال الأعرابي: أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله، فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس". 


غزوة بدر الأخيرة:


ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع أقام بالمدينة جمادى الأولى إلى آخر رجب، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان، وهو ما سبق أن أبا سفيان قال يوم أحد: الموعد بيننا وبينكم بدر العام القابل. فقال عليه السلام لرجل من أصحابه: قل نعم، هو بيننا وبينكم موعد. فخرج صلى الله عليه وسلم ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه وعشرة أفراس، واستعمل على المدينة عبد الله بن رواحة، فأقاموا على بدر ينتظرون أبا سفيان، وخرج أبو سفيان، ثم بدا له الرجوع. وأقام عليه السلام ثمانية أيام، وباعوا ما معهم من التجارة فربحوا الدرهم درهمين. 

غزوة المريسيع:


وهو ماء لبني خزاعة، وبينه وبين الفرع يومان، وتسمى "غزوة بني المصطلق" بطن من خزاعة، وكانت لليتين خلتا من شعبان سنة خمس.

وسببها أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن رئيسهم الحارث بن أبي ضرار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب فدعاهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابوه وظعنوا للمسير معه إليه، وخرج عليه السلام في بشر كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قط مثلها، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت. وخرجت عائشة وأم سلمة. فأغار عليهم وهم غارون على ماء لهم يقال له المريسيع وأنعامهم تسقى على الماء . فقتل من قتل منهم وسبي النساء والذرية. ومن السبي كانت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها، فأدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها وأعتقها فتزوجها، وكانت امرأة حلوة من رآها أحبها، فأعتق المسلمون مائة أهل بيت من بني المصطلق وقالوا أصهار رسول الله.

وفي رجوع رسول الله من هذه الغزوة قال عبد الله بن أبي بن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وذلك لشر وقع بين جهجاه بن مسعودالغفاري أجير عمر بن الخطاب وبين سنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج، فنادى الغفاري: يا للمهاجرين، ونادى الجهني: يا للأنصار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟"

وبلغ زيد بن أرقم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة عبد الله ابن أبي فنزل في ذلك من عند الله سورة المنافقين، وتبرأ عبد الله بن عبد الله بن أبي من أبيه، ووقف لأبيه قرب المدينة فقال: لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله في الدخول. وأتى رسول الله فقال له: يا رسول الله أنت والله الأعز وهو الأذل، وقال أيضا: بلغني أنك تريد قتل أبي وأني أخشى إن أمرت بذلك غيري ألا تدعني نفسي أرى قاتل عبد الله يمشي على الأرض فأقتله وأدخل النار إذا قتلت مؤمنا بكافر، وقد علمت الأنصار أني من أبرها لأبيه، ولكن يا رسول الله إن أردت قتله فمرني بذلك فأنا والله أحمل إليك رأسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، وأخبره أنه لا يسيء إلى أبيه.

وفي مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق قال أهل الإفك ما قالوا عنه في أمّ المؤمنين وحبيبة رسول الله وبكره وعرسه عائشة الصدّيقة الطاهرة العفيفة رضي الله عنها. فبرّأها الله ممّا قالوا وأقام صلى الله عليه وسلّم حد القذف على الذين تكلموا بالإفك وهم مسطح ابن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة، في قصّة طويلة حزينة مبكية رواها البخاري عن عائشة نفسها رضي الله عنها. فكلّ من رمى أمّ المؤمنين بما برّأها الله تعالى منه في كتابه فهو كافر بالله العظيم لا شكّ في كفره بل في كفر من توقّف أو شكّ في كفره. وفي قصّة حادثة الإفك فوائد جمّة وقد ذكر المصنّف في الأصل خمس وستون فائدة نقلها عن شرح النووي على مسلم وغيره.
وفي هذه الغزوة نزلت آية التيمم. 



غزوة الخندق وهي الأحزاب:


واختلفوا في تاريخها،والصحيح الثابت أنها في السنة الرابعة، رجّحه البخاري وابن حزم.
وكان من خبرها أن نفرا من اليهود من بني النضير وبني وائل خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وإنكم أولى بالحق منه، فهم الذين أنزل الله فيهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} إلى قوله {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً}.
فنشطت قريش لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له. ثم خرج ذلك النفر حتى أتوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشا تابعوهم على ذلك، فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن والحارث بن عوف في مرة، ومسعر بن دخيلة فيمن تابعه من قومه من أشجع.

فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب الخندق على المدينة -وكان الذي أشار بالخندق سلمان -فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل فيه المسلمون، فدأب فيه فدأبوا، وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف عن العمل، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة من الحاجة التي لا بد منها ذكرها لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنه باللحاق بحاجته فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتسابا له، فأنزل الله في أولئك المؤمنين {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} الآية، ثم قال في المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ويذهبون بغير إذن {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} الآية.

وقد وقع في حفر الخندق آيات من أعلام نبوته: منها: لما كان يوم الخندق عرضت للمسلمين صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكى المسلمون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول فقال: بسم الله، ثم ضرب ضربة وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة. ثم ضرب الثانية فقطع آخر فقال: الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن. ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني.

ومنها ما ثبت في الصحيح في حديث جابر من تكثير الطعام القليل، وإشباعه لجميع أهل الخندق. وغيرها من الآيات التي ذكرها أهل السير.

وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضيري إلى كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاقده على ذلك، فأقنعه على مشاركته في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعظم عند ذلك البلاء على المسلمين واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن، واستغل المنافقون -كعادتهم- الفرصة للتشكيك في صدق نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإرجاف المسلمين. فقال بعضهم: قد كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. فأنزل الله {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً}الآيات، وقال رجال معه {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} وقال بعضهم: يا رسول الله إن بيوتنا عروة من العدو، فأذن لنا فنرجع إلى ديارنا خارج المدينة. فأنزل الله {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً}.

فلما اشتد البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غطفان فأعطاهم ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا بمن معهم عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقم الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك، فبعث رسول الله إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فيه، فأشار عليه سعد بن معاذ بأن لا حاجة للمسلمين بهذا، وقال له: والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم بحكمه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنت وذلك". فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وعدوهم محاصروهم، ولم يكن بينهم قتال، إلا ما كان من قتال بين عليّ رضي الله عنه وعمرو بن عبد ود فقتله علي.

ثم إن الله سبحانه وله الحمد صنع أمرا من عنده خذل به العدو، وذلك أن نعيم بن مسعود الأشجعي أسلم وهو يخفي إسلامه، فمشى بين الأحزاب وثبط قوما عن قوم، فاختلفت كلمتهم، وأرسل الله جندا من الريح على المشركين فجعلت تقوض خيامهم ولا تدع لهم قدرا إلا أكفأتها ولا طنبا إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار. وجندا من الملائكة يزلزلون بهم ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف. 


وذلك استجابة لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث دعا على الأحزاب فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم" وقال: "اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا" فضرب الله وجوه أعدائه بالريح.


ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم فوجدهم قد تهيؤا للرحيل، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا فأخبره برحيل القوم. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رد الله عدوه بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله قتالهم، وصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
وحين ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم".

ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حين انصرف من الخندق يوم الأربعاء هو وأصحابه ووضعوا السلاح جاءه جبريل حين اغتسل وهو ينفض الغبار عن رأسه فقال: وقد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناها. اخرج إليهم. قال: فإلى أين؟ قال: ههنا، وأشار بيده إلى بني قريظة. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم.

فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكمه فرد الحكم إلى سعد فقال: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى النساء والذرية وأن تقسم أموالهم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة .

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم فأخرجوا إلى موضع سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم أمر بهم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق، وقتل معهم يومئذ حيي بن أخطب والد أم المؤمنين صفية، وكانوا من الستمائة إلى السبعمائة.

ثمّ بعد ذلك توفي سعد رضي الله عنه متأثراً بجراحه –وقد أصيب بسهم يوم الخندق- واهتز عرش الرحمن لموته وأنزل الله في أمر الخندق وأمر بني قريظة من القرآن القصة في سورة الأحزاب من قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} إلى قوله {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} الآيتين. 

ولما فتح الله في الكافر كعب بن الأشرف على أيدي رجال من الأوس، رغبت الخزرج في مثل ذلك تريد من الأجر والثناء في الإسلام، فتذاكروا أن سلام بن أبي الحقيق من العداوة لرسول الله والمسلمين على مثل حال كعب بن الأشرف، فاستأذنوا رسول الله في قتله فأذن لهم، فخرجوا إليه خمسة نفر كلهم من الخزرج، وكلهم من بني سلمة فقتلوه في داره ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 



غزوة الحديبية وهي بئر يسمى المكان بها وكانت سنة ست في ذي القعدة.


وسبب هذه الغزوة أنه صلى الله عليه وسلم أري في المنام وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتح الكعبة، وطافوا واعتمروا، وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخبر أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم داخلوا مكة عامهم ذلك، فأخبر أصحابه أنه معتمر، فتجهزوا للسفر، واستنفر العرب و من حوله من البوادي ليخرجوا معه، وهو لا يريد الحرب، ولكنه يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو صدود عن البيت، فأبطأ كثير من الأعراب، وخرج يوم الإثنين غرة ذي القعدة من السنة السادسة ومعه زوجته أم سلمة في ألف وأربعمائة، ويقال ألف وخمسمائة، ولم يخرج معه بسلاح إلا بسلاح المسافر، السيوف في القرب.

فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي، وأشعر وأحرم منها بعمرة. حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه الخبر أنّ قريشا جمعوا له جموعا، ليقاتلوه ويصدوه عن البيت. فاستشار أصحابه فأشار عليه أبو بكر أن يتوجه للبيت فمن صدنا عنه قاتلناه. فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت راحلته، فقال الناس: حل حل. فألحت فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل". ثم قال: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها".

وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره". فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فلمّا أبلغهم قام عروة بن مسعود الثقفي فقال: إنّ هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته.

فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل.

فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له. وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.

فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها. فبعثت له، واستقبله الناس يلبون. فلما رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت.

فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا مكرز وهو رجل فاجر، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم. فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد سهل الله لكم من أمركم. فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جرى بينهما الصلح. 


واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض. وعلى أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن أتى قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليهم. وأن بينهم عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال. وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد من العرب وفي عهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش من العرب وعهدهم دخل فيه، فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وثواتب بنو بكر وقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. وأن يرجع المسلمون عامهم هذا فلا يدخلوا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجت قريش عنهم فدخلوها فأقروا بها ثلاثا، معهم سلاح الراكب، السيوف في القرب، لا يدخلوها بغيرها.


وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث عثمان بن عفان إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لقتال ولا لحرب، وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته، فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أشراف قريش لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم. واحتبسته قريش عندها حتى ظن رسول الله والمسلمون عثمان قد قتل.

فقال صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم. ثمّ دعا إلى بيعةالرضوان تحت الشجرة، فبايعه الناس على الموت وعلى أن لا يفروا. فكان أول من بايعه أبو سنان الأسدي، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين ممن حضرها إلا جد ابن قيس أحد بني سلمة، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى على اليسرى فقال: هذه لعثمان، وكانت يد رسول الله لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم. وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة" ولما تمت البيعة رجع عثمان رضي الله عنه. 


فجاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألست نبي الله حقا؟ قال: "بلى"، قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى" قال: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري". فقال عمر: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: "بلى فأخبرتك أنك تأتيه العام؟" قلت: لا. قال: "فإنك آتيه ومطوف به". قال عمر: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق. قلت: أوليس كان يحدثنا أن سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى. فأخبرك أنك تأتيه وتطوف به العام؟ قال الزهري قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.


فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا". فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت له أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج وفعل ما أشارت عليه به، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. 


وفي طريق عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أنزل الله عليه سورة الفتح فقال صلى الله عليه وسلّم: "لقد أنزل علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس". ثم قرأ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً}.


ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاء أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلته لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: أرى سيفك يا فلان جيدا، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت. قال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم. فقال صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد". فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.

ثمّ تفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش أحد مسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمع منهم عصابة، فلا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم من أتاه منهم فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأنزل الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ } الآية حتى بلغ {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}.

وكان من ثمرات هذا الفتح أن أمن النّاس والتقوا واستوعبوا دعوة التوحيد فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل في تلك الفترة مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. 


غزوة خيبر:
وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، وكان الله وعد رسوله صلى الله عليه وسلّم إياها بالحديبية بقوله {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} يعني صلح الحديبية، وبالمغانم الكثيرة فتح خيبر، فخرج صلى الله عليه وسلم مستنجزا ميعاد ربه واثقا بكفايته ونصرته، وكان معه ألف وأربعمائة راجل ومائتا فرس، ومعه أم سلمة زوجته، وأمر ألا يخرج معه إلا من رغب في الجهاد، لا من غرضه عرض الدنيا. واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري.


ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر صلى بها وركب وركب المسلمون، فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم ولا يشعرون، بل خرجوا لأرضهم، وقيل إن النوم غلب عليهم تلك الليلة فلم يقم منهم أحد، حتى أن الديكة لم تصح، فلما رأوا الجيش قالوا: محمد، والله محمد والخميس. ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أنس: "الله أكبر خربت خيبر، الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" انتهى.


ولما تيقن صلى الله عليه وسلم أن اليهود تحارب وعظ أصحابه وحرضهم على الجهاد
 ورغبهم في الثواب وبشر بأن من صبر فله الظفر والغنيمة.

فقاتل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر وقاتلوه أشد القتال. واستشهد من المسلمين خمسة عشر، وفتحها الله عليه حصنا حصنا، وأخذ كنز آل الحقيق الذي كان في مسك الحمار، وكانوا قد غيبوه في خربة.

فلمّا أيقن أهل خيبر الهلاك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يسيرهم، وأن يحقن دماءهم، فقالوا: نحن أعلم بالأرض منكم، دعونا نكون فيها ونعمرها لكم بشطر ما يخرج منها ففعل صلى الله عليه وسلّم.

فلما سمع بهم أهل فدك أنهم قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يسيرهم وأن يحقن دماءهم ويخلوا له الأموال.

وكانت خيبر بين المسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.

ولم يقتل رسول الله إلا ابني أبي الحقيق للنكث الذي نكثوا، وأمر بلالا أن يذهب بصفية بنت حيي بن أخطب إلى رحله، وعرض عليها رسول الله الإسلام فأسلمت واصطفاها لنفسه، وأعتقها وجعل عتقها صداقها، وبنى بها في الطريق وأولم عليها. وشك الصحابة هل اتخذها سرية أو زوجة، فقالوا: إن حجبها فهي إحدى نسائه، وإلا فهي مما ملكت يمينه. فلما ركب جعل ثوبه الذي ارتدى به على ظهرها ووجهها، ثم شد طرفه تحته، فتأخروا عنه في السير، وعلموا أنها إحدى نسائه.

وفي البخاري: وكان علي بن أبي طالب تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان رمدا فلحق، فلما بتنا الليلة التي فتحت قال صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية أو ليأخذن الراية غدا رجلا بحبه الله ورسوله". وفي حديث سهل عند البخاري: "ويحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه". فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب؟" فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه. قال: "فأرسلوا إليه". فأتى، فبصق رسول الله في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية. فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. قال: "أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن تكون لك حمر النعم".

وفي هذه الغزوة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية، ورخص في الخيل ونهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم، وأن لا توطأ جارية حتى تستبرأ. وفي هذه الغزوة أيضا سمت النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت الحارث اليهودية امرأة سلام ابن مشكم وأرسل إليها فقال: "سممت هذه الشاة؟" فقالت: من أخبرك؟ قال: "أخبرتني هذه في يدي" –للذراع- قالت: نعم، قلت إن كان نبيا فلن يضره، وإن لم يكن نبيا استرحنا منه، فعفا عنها ولم يعاقبها، فدخلت الإسلام. فلمّا توفي أصحابه الذين أكلوا من الشاة قتلها صلى الله عليه وسلّم قصاصاً. واحتجم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة. واختلف هل أكل النبي صلى الله عليه وسلم منها أو لم يأكل، وأكثر الروايات أنه أكل منها وبقي بعد ثلاث سنين حتى قال في وجعه الذي مات فيه: "ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر، فهذا أوان انقطاع الأبهر مني". قال الزهري: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا.

ولما جرت المقاسم في أموال خيبر شبع المسلمون ووجدوا بها مرفقا لم يكونوا وجدوه قبل حتى قال عمر: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر، وعن عائشة قالت: لما فتحت خيبر قلنا الآن نشبع من الثمر.

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد مقدمه من خيبر إلى شوال، وبعث في خلال ذلك السرايا.

ثمّ لما هل ذو القعدة سنة سبع أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صدهم عنها المشركون بالحديبية، وأن لا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية. فلم يتخلف عنهم أحد منهم إلا رجالا استشهدوا بخيبر ورجالا ماتوا. وخرج معه عليه السلام من المسلمين ألفان. وساق عليه السلام ستين بدنة وأحرم لها من ذي الحليفة، ولبى ولبى المسلمون معه. فلمّا دنا من الحرم خرجت رؤساء قريش من مكة إلى رؤوس الجبال لئلا يروه، عداوة لله ولرسوله. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي أمامه فحبس بذي طوى، وركب صلى الله عليه وسلم ناقته القصواء والمسلمون متوشحون السيوف محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم يلبون. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يكشفوا عن المناكب، وأن يسعوا في الطواف ليرى المشركون جلدهم وقوتهم، وكان يكايدهم بكل ما استطاع. فاعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم واعتمر المسلمون معه وأقام رسول الله بمكة ثلاثا. فلما مضى الأجل أتوا عليا فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي عمرة القضاء تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة.







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عدد زوار الموقع