التاريخ : 11/8/1426 عبدالرحمن بن ناصر البراك
التعليق:
أمّا كون صدور هذه العقائد أو بعضها من بعض الأئمّة يُعدُّ خطأً فصحيح وهم لا يُتابعون على ما وقعوا فيه من الأخطاء في أبواب الفقه كباب المياه والطهارة فضلا عن أصول الاعتقاد !!
ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يجوز الاجتهادُ في أمور الاعتقاد حتى نقول إنّ للمخطئ أجراً وإنّ للمُصيب أجرين ؟!
الجواب: أنّه تقرر عند علمائنا أنّ الاجتهاد لا يكون مع نصّ وأنّ الغيبيات وأمور الاعتقاد من المسائل التوقيفية التي لا مجال للعقل أن يتحكّم فيها قبولا وردّاً وعليه فلا يجوز الاجتهاد في الغيبيات وأمور الاعتقاد، فإذا تقرّر هذا فلا مجال لوصف المصيب بأنّه مصيب والمخطئ أنّه مخطئ، بل الكلُّ مخطؤون !
ويشهدُ لهذا القول ما يُروى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: ((من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ومن أخطأ فليتبوّء مقعده من النّار)) .
وفي ذلك يقول بقية السلف العلامة الدكتور صالح الفوزان حفظه الديّان معقباً على قول الصوفي البوطي: ((إنّ من قواعد هذا المنهج ما قد يخضع فهنه للجتهاد، ومن ثمّ فقد وقع الخلاف ..)) فقال بقية السلف: ((فهل الإسلام قابل للاختلاف ؟!
كلا، بل إنّ أصول الإسلام والغقيدة ليست مجالا للاجتهاد والاختلاف، وإنّما هذا في المسائل الفرعية.
فمن خالف في أصول الدّين وعقيدته فإنّه يكفُر أو يُضلّلُ بحسب مخالفته، لأنّ مدارها على النّص والتوقيف.)) (تعقيبات على كتاب السلفية ليس مذهبا ص 12-13 مكتبة الهدي المحمّدي)
وقال أيضاً في موضع آخر: ((أمّا مسائل العقيدة فلا مجال للاجتهاد فيها وإنّما مدارها على التوقيف، ومن خالف فيها ضلّل أو كفّر بحسب مخالفته.
وقد ضلّل السلف القدرية والخوارج والجهمية، وحكموا على بعضهم بالكفر لمخالفتهم منهج السلف)) (نفس المصدر ص14)
أمّا قول الشيخ عبد الرحمن حفظه الله ((والواجب على المسلم أن يحكِّم كتابالله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وألا يتعصب لإمام، أو مذهب، فكلٌّ يؤخذ منقوله ويرد، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم)). فهو كلام يكتب بماء الذّهب كما يقولون. فإنّه يحلّ الإشكال القائم عند كثير من الدّعاة إلى الله على غير بصيرة وعلى خلاف منهاج النّبوة الذين إذا واجهتهم بهذه الحقائق عن الأشاعرة الضلاّل قالوا: إنّ ابن حجر والنّووي وابن الجوزي والعزّ بن عبد السلام والقرطبي وغيرهم كانوا أشاعرة –وقد صدقوا في نسبة بعضهم إلى الأشاعرة وكذبوا في آخرين- فإنّ الحقّ لا يُعرف بالرجال ولكنّ الرجال يُعرفون بالحقّ .
ونحنُ –ولله الحمد- لسنا من مقدسي الرجال والمشايخ كالصوفية الأشرار والروافض الفجّار حاشا وكلا، بل نقول كما قال الأوّلون: كلٌّ يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فهؤلاء الأئمّة الذين صدر من بعضهم بعض الموافقة لما عليه الأشاعرة من دين مشين يُحتجُّ لهم ولا يُحتجُّ بهم فإنّ الله لم يجعل العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ومن نفائس كلام الإمام الفقيه العربي بن بلقاسم التبسي الجزائري رحمه الله تعالى مما يخدم الموضوع الذي نحن بصدده قوله عليه رحمة الله: ((وممّا لا نزاع فيه عند أهل السنّة أنّ العقل أو العادة أو الشهوة لا حكم لها في دين الله المعصوم، وإنّما العقل آلة خلقها الله ندرك بها. ولا حجّة بحكمه إلا في أصول الدّين (الاعتقادات).
ومن المقرّر: إن كنتََ ناقلاً فالصحّة، وإن كنتَ مدّعياً فالدّليل. وانّ غير المعصوم محكوم بهذه القاعدة بلغتت ما بلغت مكانته أو علمه أو صلاحه)) (بدعة الطرائق في الإسلام ص 22 دار البعث قسنطينة/ تحقيق: د. الشرفي)
وقال أيضا عليه رحمات الله: ((ومن المُدوّن في علمي العقائد والسنن أنّ ردّ النّصوص استهزاءاً بها، أو إيثاراً لغيرها عليها كُفرٌ.
ومن المذكور في علمي الفروع والخلافيات: أنّ ترك السنن وتقليد الرجال: بدعة وضلالة.
ومن المدوّن أيضاً: أنّ السلف في القرون الثلاثة كانوا يقتدون بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإنّ المذاهب الاسلامية المعتبرة كانوا يتّبعون الوارد، وخلافهم في مسائلهم تابع لما بين أيديهم من السنن والآثار. وإذا ثبت الحديث فهو مذهب الجميع.
وأنّه لا يُعلمُ إمامٌ يُعرضُ عن سنّة تبيّنت اتّكالاً على أنّ صالحاً أو عالماً خالفها. فإنّ اقلّ ما يقتضي ذلك الفسوق. جعلنا الله ممّن يسمع القول فيتّبع أحسنه.)) اهـ (نفس المصدر ص23)
فإذا تبيّن هذا وترسّخ في الأذهان فاعلم أخي القارئ بارك الله فيك أنّ الموقف الصحيح من أخطاء بعض الأئمّة الفقهاء والمحدّثين في المسائل الاعتقاد أنّ ما صدر منهم خطأ محضٌ يجب التنبيه عليه والتحذير منه والردّ عليه ويجب في المقابل حفظ كرامة من صدر منه هذا الخطئ والترحّم عليه وسؤال العفو له من الله تعالى فإنّ خطأه هذا يكادُ لا يظهرُ أمام حسناته وفضائله..
وهذا شيخ الإسلام ابن باز رحمه الله تعالى يقول في تقدمته على الكتاب الجليل (فتح الباري 1/4) للحافظ الكبير ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: ((وقد وجدنا للشارح رحمه الله أخطاءً لا يحسن السكوت عنها، فكتبنا عليها تعليقاً يتضمّنُ تنبيه القارئ على الصواب وتحذيره من الخطأ)) اهـ
فأنت ترى أنّ الإمام ابن باز رحمه الله تعالى حذّر من أخطاء ابن حجر في الفتح ومع ذلك فقد شرحه رحمه الله تعالى ودرّسه ونصح به ونقل عنه في كثير من مؤلّفاته وفتاويه.
وحاشا لله أن نشابه الحدّادية الغلاة الذين أحرقوا فتح الباري وشرح صحيح مسلم للنووي رحمه الله تعالى أمام الملأ !!
حاشا وكلا.. ليس هذا الطريقُ طريقنا ولا ذاك المنهج منهجنا ..
يقول فقيه الزمان الشيخ محمّد بن عثيمين رحمه الله تعالى: ((الآن يوجد بعض النّاس تعلم أنّ له قدم صدق في الحقّ والدفاع عنه، فيخطئ في مسألة واحدة من مسائل الأصول التي هي أصول، فتُمحى كل حسناته، ونضرب لهذا مثلا: بالحافظ ابن حجر رحمه الله، لا يشك في أنّ له قدم صدق في إحياء السنّة ونشرها والدفاع عنها، ومع ذلك سمعنا أنّ البعض يقول: يجب إحراق فتح الباري لأنّه مؤوّل، وهذا غلط عظيم، بل يجب أن نأخذ ما فيه من الحقّ، ونعلّق على ما فيه ممّا ينافي هذا الحقّ.)) اهـ ((تعليق على اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص 51 مكتبة الصفا)).
فصل
هل الأشاعرة كُفّار !؟
اعلم رحمك الله أنّ جمهور العلماء على عدم تكفير الأشاعرة إلا أنّ بعض أهل العلم السابقين حكموا على الأشاعرة بالكفر وأخرجوهم من زمرة المُسلمين بسبب اعتقادهم الباطل ومذهبهم الفاسد ومن أولئك الحافظ أبو نصر السجزي رحمه الله وغيره فقد أكفرهم باسمهم الصريح ! وحكى إجماع الفقهاء على تكفير من قال بقول الأشعري في القرآن الكريم –أي أنّه حكاية عن كلام الله لا أنّه كلام الله الحقيقي كما مرّ بك آنفاً- (انظر رسالة السجزي ص15) وكذا الحافظ الهمام ابن حزم الأندلسي رحمه الله تعالى فقد حكم على من العتقد اعتقاد الأشعري في كلام الله تعالى بالكفر المخرج من الملّة (انظر الفصل له 3/4-5 و 4/159)
ومن أهل العلم من عرّض بهم ولم يُصرّح بهم – أي باسمهم الصريح- كما صنع الإمام الحافظ اللالكائي في كتابه ((شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة)) والإمام البربهاري وغيرهما من أهل العلم ..
(انظر في ذلك: الأزمة العقيدية بين الأشاعرة وأهل الحديث (ص52)، للدكتور خالد كبير علال، وهو كتاب غزير المادّة إلا أنّ فيه أخطاءاً ليست بالهيّنة ! وسأُفردها بردّ إن شاء الله تعالى)
والذي أعتقدُهُ وأدينُ لله به هو التفصيل في ذلك فليس كلّ من كان على عقيدة الأشاعرة كان كافرا بل يجب التفصيل في مثل هذه الأمور الدقيقة الحساسة فليس كلّ من وافق الأشاعرة في بعض اعتقادهم كتأويل الصفات وغيرها يُحكم بكفره بل يجب التفريق بين ردّ الصفة جحودا وعنادا ونفياً لها وبين ردّها تأويلاً .. وكذلك يجب التفريق بين تأويل الصفة تأويلا سائغاً في لغة العرب وبين تأويل الصفة تأويلاً غير سائغ في لغة العرب وهو ما يعرف بالتأويل البعيد وهكذا ..
كذلك يجب التنبّه إلى أنّ ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه بل لابد من توفّر جميع الشروط وانتفاء جميع الموانع ...
يقول العلامة السعدي رحمه الله:
ولا يتمّ الحكم حتى تجتمع **** كلّ الشروط والموانع ترتفع
يقول فضيلة الشيخ العلامة محمّد أمان الجامي رحمه الله :
((أجمع أهل العلم على أنه من نفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة فهو يكفُر، لكن مسألة الكفر بالنسبة للقاعدة : نحن نُطلق هكذا ونؤمن بهذه القاعدة، إلا أنّ الأفراد : قد ينفي الإنسان صفةً ولا يكفُر، أي : كفر المعيَّن يُتَحَفَّظُ فيه، لأن هذا المعيَّن قد تكون له شبهة، ويُعذر بجهل كأن كانت الصفة خفية، كأن عاش في بيئة بين المعتزلة أو بين الأشاعرة الذين يؤوِّلون وينفون الصفات نشأ هناك ولا يعلم من الدين إلا ما يسمع من المعتزلة ومن الأشاعرة ومن علماء الكلام، يحسب أن هذا هو الدين نفسه هو الدين الذي جاء به النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ طالما يعيش في تلك البيئة الفاسدة يُعذر حتى يخرج فيعلم فتقوم عليه الحجة إن تعصّب بعد ذلك قال : أنا لا أترك ما وجدت عليه شيوخي وإن كانت الصفة ثابتة بالكتاب والسنة لكن لا أغيِّر ولا أبدِّل ما كنت عليه؛ بعد علمه يُحكم بكفر، وقبل ذلك لا .
لذلك : هذه القاعدة : ((من شبّه الله بخلقه فهو كافر، ومن نفى صفةً ثابتة بالكتاب والسنة فهو كافر)) هذه قاعدة، قد يخرُج من هذه القاعدة أفرادٌ من الناس بأعذار لوجود أعذارٍ لهم إما شبهة مانعة من فهم ما جاء به رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو جهل يعيش في بادية بعيدًا من أهل العلم ولا صلة له بهذا البحث، عُرضت عليه صفة تصوّر، لَمّا قيل له ((إن ربنا ينـزل كلَّ أخر ليلة)) تصوّر نزولاً كنـزول المخلوق، ولم يجد من يوجِّهه ويعلِّمه أنه ينـزل نزولاً يليق به لا كنـزول المخلوق ويأتي لفصل القضاء يوم القيامة كما يليق به لا كمجيء المخلوق، لم يجد معلِّمـًا يوجِّهه هذا التوجيه، فوجئ بصفات هذه الصفة ونفى واستنكر؛ هذا يعلَّم ولا يُعلن بكفره حالاً، لا بد من التعليم وإقامة الحجة عليه .
أو ـ كما قلنا ـ عاش في بيئة أشعرية تُعلن بأن الله ليس فوق العرش ولا تحت العرش ولا على يمينه ولا على شماله، أي : النفي المطلق ـ نفيٌ لله تعالى ـ، ولا تجوز الإشارة الحسيّة إلى السماء، من أشار إلى السماء إشارة حسيّة واعتقد بأن الله في العلو كافر، وإن لم يعتقد فهو فاسق؛ درَس هذا المنهج، والأساتذة تخرّجوا على منهج المنهج، وخرّجوا التلاميذ على هذا المنهج، ولم يسمعوا شيئـًا غيرَ هذا؛ إذًا : هؤلاء التلاميذ ينبغي أن نعذرهم حتى يخرجوا من تلك البيئة ويتعلّموا؛ وهذا ما حصل لكثير من الذين تخرّجوا على ذلك المنهج وبعد خروجهم من تلك البيئة تغيّروا وفهِموا وأثبتوا صفات الله ـ تعالى ـ وألّفوا في ذلك، وهذا شيء كثير، أمثلة كثيرة لا يسع الوقت لذكرها)). (من شرحه على القواعد المثلى))
فالحاصل أنّ فمن أقيمت عليه الحجّة وبيّنت له المحجّة فأصرّ وعاند واستكبر وقال: أنا لا أترك ما وجدت عليه شيوخي وإن كانت الصفة ثابتة بالكتاب والسنة لكن لا أغيِّر ولا أبدِّل ما كنت عليه فهذا يحكم بكفره ولا كرامة .
وهذا التقرير من الإمام الجامي رحمه الله تعالى موافقٌ أشدّ الموافقة لتقرير الإمام الشافعي ررحمه الله تعالى حين قال: (( لله أسماء وصفات لا يسعُ أحداً ردُّها، ومن خالف بعد ثبوت الحجّة فقد كفر، أمّا قبل قيام الحجّة فإنّه يُعذر بالجهل، لأنّ علم ذلك لا يُدركُ بالعقل ولا الرؤية والفكر)) (فتح الباري)) لابن حجر (13/407).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((من شكّ في صفة من صفات الله تعالى ومثله لا يجهلها فمُرتدٌّ، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتدّ، ولذلك لم يكفّر النّبي صلى الله عليه وسلّم الرجل الذي الشاكّ في قدرة الله وإعادته، لأنّه لا يكون إلا بعد الرسالة)) الفتاوى الكبرى له (4/606).
ويكفي الأشاعرة موعظة -حتى وإن لم تكن بدعتهم مكفّرة- ما قاله الإمام الطرطوشي المالكي رحمه الله تعالى في كتابه الجليل ((البدع والحوادث)) بعد أن ذكر قوله تعالى ((فبدّل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون))، قال رحمه الله: ((قال علماؤنا رضي الله عنهم: إذا كان تغيير كلمة في باب التوبة وذلك أمرٌ يرجعُ إلى المخلوق يوجبُ كلّ ذلك العذاب فما ظنّك بتغيير ما هو خبر عن صفات المعبود ؟)) (ص15 دار الكتب العلمية/ ت: محمّد حسن إسماعيل)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق